الدكرورى يتكلم عن الإمام مالك بن أنس ” جزء 2″
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
الإمام مالك بن أنس ” جزء 2″
ونكمل الجزء الثاني مع الإمام مالك بن أنس، فقال إن أهل المدينة يقرأون على العالم، كما يقرأ الصبيان على المعلم، فإذا أخطئوا، أفتاهم، فرجعوا إلى المهدي، فبعث إلى مالك، فكلمه، فقال سمعت ابن شهاب يقول جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال، وهم يا أمير المؤمنين سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، وعروة، والقاسم، وسالم، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، ونافع، وعبد الرحمن بن هرمز، ومن بعدهم أبو الزناد، وربيعة، ويحيى بن سعيد، وابن شهاب، كل هؤلاء يقرأ عليهم، ولا يقرءون، فقال في هؤلاء قدوة، صيروا إليه، فاقرؤوا عليه، ففعلوا، وكان للإمام مالك منهج في الاستنباط الفقهي لم يدونه كما دون بعض مناهجه في الرواية، ولكن مع ذلك صرح بكلام قد يستفاد منه بعض منهاجه.
فقد ألمح إلى ذلك وهو يتحدث عن كتابه الموطأ ” فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين ورأيي، وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره” فهذه العبارة من الإمام تشير إلى بعض الأصول التي استند إليها في اجتهاداته واستنباطاته الفقهية، وهي السنة، وقول الصحابة، وقول التابعين، والرأي، والاجتهاد، ثم عمل أهل المدينة، وكان رحمه الله يكثر من قول لا أدي، وصح عنه أنه قال جنة العالم “لا أدري” فإذا أغفلها أصيبت مقاتله، وقال الهيثم بن جميل سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بقول لا أدري، وعن خالد بن خداش، قال قدمت على مالك بأربعين مسألة.
فما أجابني منها إلا في خمس مسائل، وعن ابن وهب عن مالك، سمع عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول “لا أدري” حتى يكون ذلك أصلا يفزعون إليه، وقال البخاري “أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر” وقال سفيان بن عيينة “ما كان أشد انتقاده للرجال” وقال يحيى بن معين “كل من روى عنه مالك فهو ثقة إلا أبا أمية” وقال غير واحد “هو أثبت أصحاب نافع والزهري” وقال الشافعي “إذا جاء الحديث فمالك النجم” وقال “إذا جاءك الأثر عن مالك فشد به يدك” وقال أيضا “من أراد الحديث فهو عيال على مالك” والمذهب المالكي من المذاهب السنية المشهورة والمنتشرة في بلاد المغرب العربي بدوله المتعددة وجنوب مصر والسودان ومعظم البلاد الأفريقية.
وأجزاء من ساحل الخليج العربي، وبعض الأسر في مكة والمدينة، وورد عن الإمام مالك، أنه قال قدم هارون يريد الحج، ومعه يعقوب أبو يوسف، فأتى مالك أمير المؤمنين، فقربه، وأكرمه، فلما جلس، أقبل إليه أبو يوسف، فسأله عن مسألة، فلم يجبه، ثم عاد، فسأله فلم يجبه، ثم عاد، فسأله، فقال هارون يا أبا عبد الله ، هذا قاضينا يعقوب يسألك، فقال فأقبل عليه مالك، فقال يا هذا، إذا رأيتني جلست لأهل الباطل فتعال، أجبك معهم، وكان من تعظيمه للعلم أن يسلم على الخلفاء دون أن يذل نفسه، فقد روى ابن وهب عن مالك، قال دخلت على المنصور، وكان يدخل عليه الهاشميون، فيقبلون يده ورجله، وعصمني الله من ذلك، ولقد سأله سائل مرة وقال مسألة خفيفة،
فغضب وقال مسألة خفيفة سهلة، ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى “إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا” فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة، ومع بُعد هذا الإمام عن الثورات والتحريض عليها، واشتغاله بالعلم، نزلت به محنة في العصر العباسي في عهد أبي جعفر المنصور، سنة مائة وست وأربعون من الهجرة وقد ضرب في هذه المحنة بالسياط ، ومدت يده حتى انخلعت كتفاه، والسبب المشهور أنه كان يحدث بحديث ” ليس على مستكره طلاق ” وأن مروجي الفتن اتخذوا من هذا الحديث حجة لبطلان بيعة أبي جعفر المنصور، وأن هذا ذاع وشاع في وقت خروج محمد بن عبد الله بن الحسن النفس الزكية بالمدينة، وأن المنصور نهاه عن أن يحدث بهذا الحديث.
ثم دس إليه من يسأله عنه، فحدث به على رؤوس الناس، فضربه والي المدينة جعفر بن سليمان، وفي بعض الروايات أن أبا جعفر المنصور اعتذر للإمام مالك بعد ذلك بأن ما وقع لم يكن بعلمه، ولقد عاش نحو تسعين سنة، كان فيها إماما يروي ويفتي، ويسمع قوله نحو سبعين سنة، تنتقل حاله كل حين زيادة في الجلال، ويتقدم في كل يوم علوه في الفضل والزعامة، حتى مات، وقد انفرد منذ سنين، وحاز رياسة الدنيا والدين دون منازع، وتوفى الإمام مالك رحمه الله بالمدينة المنورة سنة مائة وتسع وسبعون من الهجرة عن خمس وثمانين سنة، ودُفن بالبقيع.