الدكرورى يكتب عن حذيفة بن اليمان العبسي “جزء 5”
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الخامس مع حذيفة بن اليمان العبسي، وكان لحذيفة بن اليمان رضى الله عنه أقوال بليغة كثيرة، فقد كان واسع الذكاء والخبرة، ومن ذلك قوله للمسلمين “ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة، ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا، ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه” وعن حذيفة بن اليمان قال، قالوا يا رسول الله، لو استخلفت، قال “إن استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم، ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه، وما أقرأكم عبد الله فاقرءوه” وعن زيد بن وهب في قوله تعالى فى سورة التوبة “فقاتلوا أئمة الكفر” قال كنا عند حذيفة رضى الله عنه، فقال “ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة” فقال أعرابي، إنكم أصحاب محمد تخبروننا فلا ندري.
فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلاقنا؟ قال “أولئك الفساق، أَجل، لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير، لو شرب الماء البارد لما وجد برده” وعن مسلم بن نذير، عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال، قلت يا رسول الله، إني رجل ذرب اللسان، وإن عامة ذلك على أهلي، قال “فأين أنت من الاستغفار، إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة” وعن حذيفة بن اليمان قال، أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مرضه الذي توفاه الله فيه، فقلت يا رسول الله، كيف أصبحت بأبي أنت وأمي؟ فردَّ عليَّ بما شاء الله، ثم قال “يا حذيفة، ادن مني” فدنوت من تلقاء وجهه، فقال “يا حذيفة، إنه من ختم الله به بصوم يوم، أراد به الله تعالى أدخله الله الجنة، ومن أطعم جائعا أراد به الله، أدخله الله الجنة، ومن كسا عاريا أراد به الله، أدخله الله الجنة”
فهذا آخر شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم “يكون دعاة على أبواب جهنم” فساقه إلى آخره، وهو قطعة من حديث البخاري، وعن حذيفة بن اليمان، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “تكون فتن على أبوابها دعاة إلى النار، فأن تموت وأنت عاض على جذل شجرة خير لك من أن تتبع أحدا منهم” رواه النسائي، وعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم تجد يومئذ خليفة فاهرب حتى تموت فإن تمت وأنت عاض وقال في آخره قال قلت فما يكون بعد ذلك قال لو أن رجلا نتج فرسا لم تنتج حتى تقوم الساعة”
وقيل أنه أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا، فكتب عمر لسعد بن أبي وقاص كي يغادرها فورا بعد أن يجد مكانا ملائما للمسلمين، فوكل أمر اختيار المكان لحذيفة بن اليمان ومعه سلمان بن زياد، فلما بلغا أرض الكوفة وكانت حصباء جرداء مرملة، قال حذيفة لصاحبه، هنا المنزل ان شاء الله، وهكذا خططت الكوفة وتحولت إلى مدينة عامرة، وشفي سقيم المسلمين وقوي ضعيفهم، وقد خرج أهل المدائن لاستقبال الوالي الذي اختاره عمربن الخطاب رضى الله عنه، لهم، فأبصروا أمامهم رجلا يركب حماره على ظهره اكاف قديم، وأمسك بيديه رغيفا وملحا, وهو يأكل ويمضغ، وكاد يطير صوابهم عندما علموا أنه الوالي حذيفة بن اليمان، المنتظر.
ففي بلاد فارس لم يعهدوا الولاة كذلك، وحين رآهم حذيفة يحدقون به قال لهم، اياكم ومواقف الفتن، قالوا، وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله ؟ قال أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير أو الوالي، فيصدقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه، فكانت هذه البداية أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد، ومنهجه في الولاية، ولمّا نزل بحذيفة الموت جزع جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا، فقيل له ما يبكيك ؟ فقال ما أبكي أسفا على الدنيا، بل الموت أحب إليّ، ولكني لا أدري على ما أقدم على رضى أم على سخط، ودخل عليه بعض أصحابه، فسألهم أجئتم معكم بأكفان ؟ قالوا نعم، قال أرونيها، فوجدها جديدة فارهة، فابتسم وقال لهم ما هذا لي بكفن.
انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص، فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدل خيرا منهما، أو شرا منهما، ثم تمتم بكلمات قائلا مرحبا بالموت، حبيب جاء على شوق، لا أفلح من ندم، وأسلم الروح الطاهرة لبارئها في أحد أيام العام الهجري السادس والثلاثين بالمدائن، وذلك بعد مقتل الخليفه عثمان بن عفان بأربعين ليلة رضى الله تعالى عنهم أجمعين.