الدكرورى يكتب عن الخليفة العباسي عبد الله المأمون “جزء 3”
بقلم / محمــــد الدكـــرورى
الخليفة العباسي عبد الله المأمون “جزء 3″
ونكمل الجزء الثالث مع الخليفة العباسي عبد الله المأمون، فكتب المأمون إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم بموت علي بن موسى ويسألهم الدخول في طاعته ثم جدّ السير إلى بغداد فوصلها سنة مائتين واربعة من الهجره حيث أقبل الناس على مبايعته والترحيب به، وعفا المأمون عن عمه إبراهيم المهدي وأمر الناس بلبس السواد ثانية، وكان المأمون ذا خبرة عظيمة في سياسة الحكم عالما بأحوال رعيته وخاصة باطنته وخواصه، وكان محبا للعدل يرى فيه أساسا لثبات الحكم وكان يجلس بنفسه للفصل بين الناس ويأخذ الحق من أي شخص كائنا ما كان وكان محبا للعفو عن المخطئين وقال عن نفسه ” ليت أهل الجرائم يعرفون مذهبي في العفو، حتى يذهب الخوف عنهم” وكان يقول ” أنا والله أستلذ العفو، حتى أخاف ألا أؤجر عليه.
ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو، لتقربوا إلى بالذنوب ” وقال ” إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه، صلح ملكه كله ” وقد رفع إليه أهل الكوفة مظلمة يشكون فيها عاملا، فوقَّع قائلا “عينى تراكم، وقلبى يرعاكم، وأنا مولّ عليكم ثقتى ورضاكم” وشغب الجند فرفع ذلك إليه، فوقَّع قائلا ” يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب ” وقيل أنه وقف أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه على الأهواز، فقال له المأمون ” أخربت البلاد، وأهلكت العباد، فقال يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفت بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟ فقال العفو والصفح، قال فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك، قال قد فعلت، ارجع إلى عملك فوال مستعطف خير من وال مستأنف” وكتب إلى على بن هشام أحد عماله، وقد شكاه غريم له ” ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريا، وجارك طاويا ”
وقيل أنه كان كريما بصورة تصل إلى السرف حتى يقال أنه أنفق في عرسه على ” بوران بنت الحسن ” ما يوازي خمسين مليون درهم، وكان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في قتال الكافرين، خاصة الروم الذي حاصرهم وصابرهم مرات كثيرة، وباشر القتال بنفسه، وكان يستمع إلى النصيحة ويرجع إلى الحق، وقد أمر يوما بإباحة نكاح المتعة “وهذا يوضح أثر التشيع على المأمون لأن نكاح المتعة مباح عند الشيعة، فدخل عليه القاضي يحيى بن أكثم مهموما مغتما، فقال له المأمون مالك يا يحيى؟ قال له يحيى أبيح اليوم الزنا يا أمير المؤمنين، فارتعد المأمون قائلا وكيف ذلك ؟ قال يحيى أبيح اليوم نكاح المتعة، فقال المأمون وهل هو زنا ؟ قال يحيى يا أمير المؤمنين قل لي عن زوجة المتعة هل هي التي ترث أو تعتد أو هي ملك يمين؟ فقال المأمون كلا.
فقال يحيى إذا هي زنا، فقال المأمون أستغفر الله من ذلك، وأمر مناديا بتحريم المتعة، وهكذا كان المأمون، حتى لقد وصفه الواصفون بأنه من أفضل رجال بنى العباس، حزما وعزما وحلما وعلما ورأيا ودهاء، وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدّثين، وبرع فى الفقه واللغة العربية والتاريخ، ومن سرعة بديهة المأمون وسعة فقهه في الدين، أن امرأة جاءت إليه وهو في مجلس من العلماء، وقالت له يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار، أعطوني دينارا واحدا، فأخذ المأمون يحسب ثم قال لها هذا نصيبك، فقال له العلماء كيف علمت يا أمير المؤمنين؟ فقال هذا الرجل خلف ابنتين، قالت نعم، قال فلها الثلثان أربعمائة، وخلف والدة فلها السدس مائة، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون، وباالله ألك اثتا عشر أخا؟ قالت نعم.
قال أصابهم ديناران وأصابك دينار، وكان المأمون من حفظة القرآن كثير التلاوة، حتى أنه كان يتلو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة، وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقها وطبا وشعرا وفرائض وكلاما ونحوا حتى علم النجوم، وقد استوزر الحسن بن سهل وتزوج المأمون سنة مائتين وعشره من الهجره بوران ابنة الحسن بن سهل، وبقي وزيرا حتى عرضت له سوداء فانقطع بداره ليتطبب واحتجب عن الناس، فاستوزر المأمون أحمد بن أبي خالد، وإن ضعف السلطة المركزية في بغداد نتيجة للفتن والحروب التي تخللت عصر الأمين وأوائل عصر المأمون قد انتقلت عدواها إلى الأقاليم الإسلامية، إلى مصر والمغرب، وقامت القبائل والعشائر العربية والجزيرة بثورات مختلفة بقيادة زعيم عربي اسمه نصر بن شبث العقيلي.