الدكرورى يتكلم عن راوي الحديث أبي هريرة ” جزء 2″
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
راوي الحديث أبي هريرة ” جزء 2″
ونكمل الجزء الثاني مع راوي الحديث أبي هريرة، وكان أبو هريرة رضي الله عنه ذا لسان سؤول وقلب عقول، أما لسانه السّؤول، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال صلي الله عليه وسلم “لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أوّلي منك ، لِما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من نفسه” رواه البخارى، وأما قلبه العقول فيدل عليه سعة حفظه وفهمه وإدراكه، فقد كاتب مروان أمير المدينة قال أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل يسأله وجعلني خلف السرير، وأنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول، أي بعد سنة دعا به فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدّم ولا أخّر” وأبو هريرة رضي الله عنه.
ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول رب العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين فلم يخلو ديوان من دواوين الإسلام إلا واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمضي مجلس من مجالس الذكر والعلم إلا وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغالية، لم يسمع به أحد إلا أحبه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة فما ملّ مجالسته بل تمنى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال “ما كنت أتمنى من الدنيا إلا ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة” ومن المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شدّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء الكفار والمنافقين وأفراخهم من المستشرقين.
والمستغربين لهذا الرجل الأصيل، فراحوا يشوّهون صورته المشرقة بأثافي الأساطير والأكاذيب، ويصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح والألاعيب، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما حفظه من ذلك في قلة السنين، لكن أهل الإيمان لا ترجفهم أقاويل المفترين ولا تصرفهم عن محبة أبي هريرة ترهات الممترين، لأنهم بفضله ومناقبه عارفون عالمون، وبشرف الدفاع عنه مكافحون منافحون، والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كل مرقوب ومطلوب، فقد كان في الجاهلية يسمى بعبد شمس كما ترجم له البخاري في تاريخه، ولما جاء الإسلام غيّر اسمه، لأنه لا يجوز تسمية إنسان بأنه عبد فلان أو عبد شيء من الأشياء، وإنما هو عبد الله فقط، فسمّي بعبد الرحمن.
وقيل عبد الله، والمشهور الأول، ورجّح ابن حجر احتمال صحة الاسمين، وقد نشأ أبى هريره رضي الله عنه يتيمًا وهاجر مسكينًا كما يقول عن نفسه، وتأخر قدومه إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا ولا غزوة الأحزاب، ومات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما بين ثلاث سنين وأربعه ، ولا تناقض لأن السنين الثلاث المذكورة عند البخاري فُسِّرت بالملازمة اللصيقة والحرص الشديد على الصحبة وتلقي الحديث، وهؤلاء هم أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في شمال المسجد النبوي يأوي إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لا منزل له وأكثرهم من المهاجرين الفقراء وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
يطعمهم ويتفقد أحوالهم ، وفضلهم مشهور لا ينكر، وكان أبو هريرة منهم قد حاز شرف فقرهم وفضلهم وأجرهم، وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة لصحبته، ولهجرته، ولدوسيته، ويمانيته، ونيله دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوثيقه له، وشهادة القرآن له، وبعد وفاة النبي محمد، شارك أبو هريرة في عهد أبي بكر الصديق في حروب الردة، كما شارك في الفتح الإسلامي لفارس في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم استعمله عمر واليا على البحرين، فقدم من ولايته عليها إلى المدينة بعشرة آلاف، فاتهمه عمر بن الخطاب في تلك الأموال، فأنكر أبو هريرة رضي الله عنه اغتصابه لتلك الأموال، وقال له بأنها نتاج خيله، ومن تجارته في الغلال، وما تجمّع له من أعطيات، فتقصّى عمر بن الخطاب الأمر، فتبيّن له صدق مقولة أبي هريرة رضي الله عنه.
وأراد عمر بن الخطاب بعدئذ أنه يُعيد أبي هريرة رضي الله عنه إلى ولايته على البحرين، فأبى أبو هريرة، وامتنع، بعد ولايته تلك، وقد أقام أبو هريرة رضي الله عنه في المدينة المنورة يُحدّث طلاب الحديث، ويُفتي الناس في أمور دينهم، وقد قيل أن أبا هريرة رضي الله عنه هو من صلى على السيده عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها في رمضان سنة ثماني وخمسين من الهجرة، وعلى السيدة أم سلمة هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان ذلك في شهر شوال سنة تسع وخمسين من الهجرة، ثم توفي بعد ذلك في نفس السنة، وكانت وفاة الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه في وادي العقيق، وحمل بعدها إلى المدينة، حيث صلى عليه الوليد بن عتبة أمير المدينة المنورة وقتئذ بعد صلاة العصر، وشيعه عبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري.
ودُفن بالبقيع، وقد أوصى أبو هريرة رضي الله عنه حين حضره الموت، فقال إذا مت فلا تنوحوا عليّ، لا تضربوا عليّ فسطاطا، ولا تتبعوني بمجمرة، وأسرعوا بي، كما كانت له قبل وفاته دارا في ذي الحليفة، تصدق بها على مواليه، وقد كتب الوليد بن عتبه إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان ينبأه بموت أبي هريرة، فكتب معاوية إليه يأمره بأن يحصي ورثة أبي هريرة، وأن يمنحهم عشرة آلاف درهم، وأن يُحسن جوارهم .