مفرق الجماعات الموت ” جزء 9″

الدكرورى يكتب عن مفرق الجماعات الموت ” جزء 9″ 

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

مفرق الجماعات الموت ” جزء 9″

ونكمل الجزء التاسع مع مفرق الجماعات الموت، ومن تأمل أحوال الماضين وكلامهم حين منازعة الروح في حال الاحتضار، كان ذلك أعظم واعظ ل، فقد بلغوا الوصية بأصدق لهجة ووصفوا حالهم بأتم بيان وأجزله، لمّا عاينوا الحقيقة، وقيل أنه لما حضرت معاوية بن أبى سفيان الوفاة، قال أقعدوني، فأقعدوه، فجعل يسبح الله تعالى ويذكره، ثم بكى وقال تذكر ربك يا معاوية بعد الهرم والانحطاط؟ ألا كان هذا وغض الشباب نضر ريان؟ وبكى حتى علا بكاؤه وقال يا رب ارحم الشيخ العاصي، ذا القلب القاسي، اللهم أَقِل العثرة، واغفر الزلة، وجد بحلمك على من لا يرجو غيرك، ولا يثق بأحد سواك، وقال عبد الملك بن مروان في مرض موته.

” ارفعوني فرفعوه حتى شم الهواء وقال يا دنيا ما أطيبك إن طويلك لقصير وإن كثيرك لحقير، وإن كنا بك لفي غرور، فقيل له كيف تجدك؟ قال أجدني كما قال الله تعالى ” ولقد جئتمونا فُرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم” وقال بعضهم دخلنا على عطاء السلمي نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له كيف ترى حالك؟ فقال” الموت في عنقي والقبر بين يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي ثم بكى بكاء شديدا حتى غُشى عليه، فلما أفاق قال اللهم ارحمني، وارحم وحشتي في القبر، ومصرعي عند الموت، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين” فإن كان هذا هو حال الأتقياء البررة.

فكيف بحال المسرفين على أنفسهم أمثالنا وقد كثرت ذنوبنا وقل زادنا مع بعد السفر، فهل أعددنا لأنفسنا زادا يبلغنا الغاية؟ أم لا نزال بالتسويف والأمنيات حتى يبغتنا الأجل؟ فإن الكيس الفطن من أعد لسفره عدته وجهز لرحيله مؤنته ثم بعد ذلك يرجو رحمة الله وعفوه ومغفرته، فكلنا سنرحل عن هذه الدنيا ولكن هل عملنا لما بعد الموت؟ فكل الناس يغدو، فبائع نفسه فموبقها أو معتقها فقال تعالى ” كلا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفّت الساق بالساق إلى ربك يومئذٍ المساق” فما ظنك بحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان قريبا من القبور، قريبا من منازل الآخرة، وكيف لا يكون مهيبا كذلك، وهو يتعلق فيما سيجري على كل أحد.

بعد إقباله على الآخرة، وانقطاعه من الدنيا، والآخرة يدخل فيها كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون على الإنسان بعد الموت، فقد ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم حديثه مع أصحابه بعد أن نظر إلى السماء ثم إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثا، تعظيما للحديث ابتدأه، فقال صلى الله عليه وسلم استعيذوا بالله من عذاب القبر، كررها مرتين، أو ثلاثا” ثم قال صلى الله عليه وسلم” إن العبد إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه.

فيقول أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، فينتهون به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له، قال صلى الله عليه وسلم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل “اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتكم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى”