الدكرورى يكتب عن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ” جزء 9″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
العباس بن عبد المطلب بن هاشم ” جزء 9″
ونكمل الجزء التاسع مع العباس بن عبد المطلب بن هاشم، وإن ادراك هذه الحقيقة لا يعطينا تقديرا سديدا للجهد الخارق الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فحسب، بل يعطينا تقديرا صحيحا وأمينا لقيمة النصر العظيم الذي أحرزه الاسلام والمؤمنون، ورؤية واضحة لتوفيق الله الماثل في هذا النجاح وذلك الانتصار، وقد احتشدت تلك القبائل في صفوف لجبة من المقاتلين الأشدّاء، وخرج اليهم المسلمون في اثني عشر ألفا، من الذين فتحوا مكة بالأمس القريب، وشيعوا الشرك والأصنام الى هاويتها الأخيرة والسحيقة، وارتفعت راياتهم تملأ الأفق دون مشاغب عليها أو مزاحم لها، وكان هذا شيء يبعث الزهو، والمسلمون في آخر المطاف بشر، ومن ثم.
فقد ضعفوا امام الزهو الذي ابتعثته كثرتهم ونظامهم، وانتصارهم بمكة، وقالوا ” لن نغلب اليوم عن قلة ” ولما كانت السماء تعدّهم لغاية أجلّ من الحرب وأسمى، فان ركونهم الى قوتهم العسكرية، وزهزهم بانتصارهم الحربي، عمل غير صالح ينبغي أن يبرؤا منه سريعا، ولو بصدمة شافية، وكانت الصدمة الشافية هى هزيمة كبرى مباغتة في أول القتال، حتى اذا ضرعوا الى الله، وبرؤا من حولهم الى حوله، ومن قوتهم الى قوته، انقلبت الهزيمة نصرا، ونزل القرآن الكريم يقول للمسلمين” ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم، فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين”
وكان صوت العباس يومئذ وثباته من ألمع مظاهر السكينة والاستبسال، فبينما كان المسلمون مجتمعين في أحد أودية تهامة ينتظرون مجيء عدوّهم، وكان المشركون قد سبقوهم الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه، شاحذين أسلحتهم، ممسكين زمام المبادرة بأيديهم، وعلى حين غفلة، انقضّوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة، جعلتهم يهرعون بعيدا، لا يلوي أحد على أحد، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه الهجوم المفاجئ الخاطف على المسلمين، فعلا صهوة بغلته البيضاء، وصاح ” الى أين أيها الناس؟ هلموا اليّ، أنا النبي لا كذب، انا ابن عبد المطلب ” ولم يكن حول النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك الوقت، سوى أبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب.
والعباس بن عبد المطلب، وولده الفضل بن العباس وجعفر بن الحارث وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد، وقلة أخرى من الصحابة الكرام، وكان هناك سيدة أخذت مكانا عاليا بين الرجال والأبطال، فكانت تلك السيدة هي أم سليم بنت ملحان، وقد رأت ذهول المسلمين وارتباكهم، فركبت جمل زوجها أبي طلحة رضي الله عنهما، وهرولت بها نحو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولما تحرك جنينها في بطنها، وكانت حاملا، خلعت بردتها وشدّت بها على بطنها في حزام وثيق، ولما انتهت الى النبي صلى الله عليه وسلم، شاهرة خنجرا في يمينها ابتسم لها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال ” أم سليم؟ ” قالت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك.
كما تقتل الذين يقاتلونك، فانهم لذلك أهل، وازدادت البسمة ألقا على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم الواثق بوعد ربه وقال لها ” ان الله قد كفى وأحسن يا أم سليم ” هناك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، كان العباس الى جواره، بل كان بين قدميه بخطام بغلته يتحدى الموت والخطر، وقد أمره النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن يصرخ في الناس، وكان العباس جسيما جهوري الصوت، فراح ينادي” يا معشر الأنصار يا أصحاب البيعة” وكانما كان صوته داعي القدر ونذيره، فما كاد يقرع أسماع المرتاعين من هول المفاجأة، المشتتين في جنبات الوادي، حتى أجابوا في صوت واحد ” لبّيك، لبّيك” وانقلبوا راجعين كالاعصار، حتى ان أحدهم لينحرن بعيره أو فرسه، فيقتحم عنها ويترجل.