الدكرورى يكتب عن الرسول في غزوة عمرة القضاء ” جزء 11″
بقلم / محمـــد الدكـــروى
الرسول في غزوة عمرة القضاء ” جزء 11″
ونكمل الجزء الحادي عشر مع الرسول في غزوة عمرة القضاء، وأخيرا ختم الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الصورة البهية القوية بزواجه من السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وفي هذا الزواج دليل على أنه يعيش حياة طبيعية في مكة، فالرسول ليس خائفا ولا مترقبا، بل يتزوج ويحتفل ويقيم العرس، بل إنه في بساطة شديدة لا تخلو من حكمة سياسية رائعة دعا المشركين لحضور الحفل وللأكل من الوليمة، ولكن المشركين رفضوا ولم يقبلوا ذلك، وفهموا رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يتصرف في مكة وكأنها بلده، وليست بلدهم، فأصروا على أن يكون عرسه خارج مكة، وكان اختيار السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها في غاية الحكمة، فهي من قبيلة عريقة من أرقى قبائل العرب، قبيلة بني عامر، وقبيلة بني عامر.
كانت تفتخر على العرب أنها من القبائل القليلة التي لم يُسب منها امرأة واحدة، ولم يؤخذ منها أسير، فهذا زواج سياسي اجتماعي دعوي حكيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي توقيت في قمة الحكمة، وفي نهاية العمرة وقعت حادثة كان في تشريع محكم وفوائد جمة، فعن البراء بن عازب قال، لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة بعد أدائه للعمرة، تبعته ابنة حمزة تنادي يا عم، يا عم، فتناولها علي، فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها، دونك ابنة عمك، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم، فقال علي أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر هي ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد ابنة أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم، لخالتها، وقال ” الخالة بمنزلة الأم ” وقال لعلي ” أنت مني وأنا منك ” وقال لجعفر” أشبهت خَلقي وخُلقي ”
وقال لزيد ” أنت أخونا ومولانا ” ويؤخذ من ذلك أن الخالة بمنزلة الأم، وتقدم في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين، وهكذا كانت عمرة القضاء رغم أنها في لا تحتل في سجل السيرة النبوية الممتد لثلاثة وعشرين عاما، سوى ثلاثة أيام، إلا إنها كانت من أعظم أحداثها وأبعدها أثرا، ولا نكون مبالغين إذا قلنا أن عمرة القضاء كانت نقطة فاصلة بين عهدين في الصراع بين المسلمين والمشركين، فلقد أثرت العمرة بأحداثها والسياسة الحكيمة التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها من تكتيكات الدعوة والقتال في نفوس العرب عامة وقريش خاصة، حتى أن قريشا قد ألقت بخلاصة رجالها وأنجاد أبطالها بعد عمرة القضاء، حيث أسلم ثلاثة من كبار رجالات قريش وقادتها، خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم.
والأهم من ذلك أن الكثيرين ممن كان يستخفي بإسلامه داخل مكة بدأ في الجهر بدينه وممارسة شعائره في العلن دون خوف أو نكير، فقد دخل الخوف في قلوب المشركين بعد أن رأوا قوة الإسلام وأتباعه، ومما يروى في ذلك، أن أبا رافع رضي الله تعالى عنه، كان مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم، ووكيله في زواجه من ميمونة بنت الحارث، فلما رفض المشركين أن يبني بها الرسول صلى الله عليه وسلم، في مكة لانقضاء الأجل، فتحرك الرسول مع المسلمين وأمر أبا رافع أن يلحقه به مع ميمونة بعد أن تتهيأ للعرس، فلما خرج بها اعترضه سفهاء قريش وشبابهم المتحمس، فقال أبو رافع ” لقينا عناء من أهل مكة من سفهاء المشركين من أذى ألسنتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولميمونة، فقلت لهم ما شئتم، هذه والله الخيل والسلاح ببطن ناجح.
وأنتم تريدون نقض العهد والمدة، فولوا راجعين منكسين” ولقد كشفت عمرة القضاء وما جرى فيها من أحداث، أن المسلمين أصبحوا يشكلون قوة متماسكة، وصفا واحدا كالبنيان المرصوص، وهذا ما جعل قريش تشعر بخطورتهم، وتفقد الأمل في التغلب عليهم، وتدرك أن الخلاص يكمن في الانضمام إلى المعسكر الإسلامي عاجلا أم آجلا، ومن ثم كانت هذه العمرة المباركة، تمهيدا للفتح الكبير الذي جاء من بعدها بشهور قليلة، فقبل أن يستدير العام كان المسلمون قد فتحوا مكة في شهر رمضان فى السنه الثامنة من الهجرة، فكانت عمرة القضاء سببا لفتح قلوب أهل مكة قبل فتح أبوابها، ولقد غيرت الأحداث نفسية وسلوك خالد بن الوليد، وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خالته سوف يقرب منه أكثر وأكثر، ولو حدث وأسلم خالد.
فإن هذه ستكون إحدى الضربات القاضية للكفر وللكافرين، وسبحان الله، فقد أسلم خالد رضي الله عنه، بعد شهور قليلة من عمرة القضاء ويثبت بذلك عمق نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينهى المسلمين عن استقبال ذويهم من المشركين، واستضافتهم في المدينة، وقبول هداياهم، كما حدث مع أسماء بنت أبي بكر رضى الله عنهاعندما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن صلة أمها المشركة، فقال لها صلى الله عليه وسلم “صليها ” وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العودة من هذه العمرة عدة سرايا.