الدكرورى يكتب عن علاقات المصالح والأوهام ” جزء 4″
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
علاقات المصالح والأوهام ” جزء 4″
ونكمل الجزء الرابع مع علاقات المصالح والأوهام، فيعمي الراغب عن حقيقة قدراته النفسية والمادية والدينية فيعيش أحلام الذكاء وهو من أغبى الناس، ويلبس جبة الزهد وهو من أسرف الناس، يلاعب أطياف السعادة وهو أشقى ما يكون من حال، قد اختل عنده معيار السعادة والتدين والشهرة والشجاعة والكرم ليصبح مشهورا في عزلته، شجاعا في ضعفه، كريما في بخله، وإذا ما خاف المرء شيئا لاح له الموت كاملا في كل أفق فيفرق من الحمل يحسبه حية، ويرى كل سوداء فحمة وكل بيضاء شحمة، ويستسمن ذا الورم فإذا ما عطس قال هذه عين ولو كان مزكوما، وإذا ما أخفق في عمله أو دراسته أو علمه قال هذه عين ولو كان أغبى الناس وأكسلهم، ونسي ما حققه أذكياء الأمة وأعلامهم حيث لم تسيطر عليهم الأوهام.
ولم تكن كابوسا يقض مضاجعهم، وترى أن الإنسان سعى في الدنيا بطول دروبها، وتشعب شعابها، بصعودها وهبوطها، أخذته احتضنته، غرته بالحسن والجمال، انبهر بها، شرب كأسَها حتى الثمالة، أعطاها كل ذرة من ذرات الكيان المادي، وكل نبضة من نبض الكيان الروحي، مشت به معصوب العينين، مكمم الفم، مسلوب الإرادة، ليفيق على صدمة تزلزلت لها أنفاس الوجود، وأدمى لها الوجد، وسكب الأنهار، ماذا يُجدي الآن أمام هذا الطوفان؟ يشعر بالمرارة والغصة تملأ حنجرته، أيُعقَل أن يكون غافلا عن كل هذا؟ أيُسرق عمره دون أن يشعر، أم استمالته الأيام بحسنها الخادع؟ لقد تعرى اليوم أمام ذاته، لتظهر المساوئ على اختلافها، أين كانت؟ ولم بدت بهذا القبح المنفر؟ يتمنى أنه لم يأتى هذا اليوم، ولا هذه اللحظات، اعتقد بوهمه أن الآلام والأحزان.
التي مرّ بها لم يمر بها إنسان، ولا يوجد لها مثيل، ليتفاجأ اليوم بهذا الواقع، ولينظر لهذا الضيف الذي شك أنه لن ولا يوجد لها مثيل، ليتفاجأ اليوم بهذا الواقع، ولينظر لهذا الضيفِ الذي شك أنه لن يأتي أبدا، فتقلب في غياهب الزمان، وأروقة السنين، ولحظات الأيام، ليقف اليوم أمام هذا القادم من دنيا الغيوب، ليضمه في حرارة المشتاق، ويمطره بوابل من القبل، ويربت على ظهره طويلا، ثم يجلس وظهرُه إليه، ويشير عليه بالركوب، فلا يملك إلا أن يركب، لينطلق به ويطبق عليهما الفضاء، وتتماسك الغيوم السوداء، وينعق البوم فوق المشارف، وتتدفق الأنهار المشرئبة، وتضيق المحاجر، وتنطلق الدماء، وتصرخ واهم مَن أيقن الخلود، ونصب خيام البقاء، واهم، واهم، والإنسان يخاف ويقلق من المجهول لأنه أقرب للضعف من القوة بطبيعته كبشر.
وهنا يأتي الدور الحقيقي للإيمان الراسخ بالتوكل على الله القادر على كل شيء، والمتصرف بالأقدار لحكمه، فيصيب من يشاء ويصرف السوء عمن يشاء سبحانه، ومن هنا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ” يا غلام، إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف ” ومن الأمثلة المشرقة في حياة سلف الأمة، هو ما قام به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المحافظة الشديدة على المصالح العامة، فمن مواقفه المعروفة إن ابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما اشترى إبلا وأرسلها إلى الحمى حتى سمنت.
فدخل عمر السوق فرأى إبلا سمانا فقال لمن هذه الإبل؟ قيل لعبد الله بن عمر، قال فجعل يقول يا عبد الله بن عمر بخ، بخ، ابن أمير المؤمنين، ما هذه الإبل؟ قال قلت إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى، أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال، فقال فيقولون ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين، فكان هذا موقف في غاية الورع، والزهد، والمحافظة على المصالح العامة، وعدم تقديم المصالح الخاصة عليها، وفي الحقيقة أن السيرة النبوية الشريفة، وسيرة الخلفاء الراشدين، وسلف الأمة الصالح زاخرة بهذه المواقف المضيئة، والمشرقة في سماء المجتمع المسلم، ولا شك أن هذا سر عظيم، ومفتاح أساس في المحافظة على المجتمع، وتطوره، والرقي به، فحينئذ نحن بحاجة ماسة جدا للعودة الصادقة إلى سيرة سلف الأمة، وتلمس أسرار نجاحها، وتفوقها حتى نستطيع أن نعيد للأمة مجدها وعزها.