الدكرورى يكتب عن أبو البشر آدم عليه السلام “جزء 2”
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
أبو البشر آدم عليه السلام “جزء 2”
ونكمل الجزء الثاني مع أبو البشر آدم عليه السلام، ويكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق وما يجعلهم يتوقعون أنه سيفسد في الأرض وأنه سيسفك الدماء، وهم بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق ويرون التسبيح بحمد الله والتقديس له وهو وحده الغاية للوجود وهو متحقق بوجودهم هم ويسبحون بحمد الله ويقدسون له ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته، وهذه الحيرة والدهشة التي ثارت في نفوس الملائكة بعد معرفة خبر خلق آدم، أمر جائز على الملائكة، ولا ينقص من أقدارهم شيئا، لأنهم، رغم قربهم من الله، وعبادتهم له، وتكريمه لهم، لا يزيدون على كونهم عبيدا لله، لا يشتركون معه في علمه، ولا يعرفون حكمته الخافية، ولا يعلمون الغيب، ولقد خفيت عليهم حكمة الله تعالى، في بناء هذه الأرض وعمارتها وفي تنمية الحياة.
وفي تحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها وتعديلها، على يد خليفة الله في أرضه، وهذا الذي قد يفسد أحيانا وقد يسفك الدماء أحيانا وعندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء والخبير بمصائر الأمور ” إني أعلم ما لا تعلمون” ومما لا شك فيه أن الله تعالى لا يقدّر شيئا ولا يخلقه ولا يشرعه إلا لحكَمة بالغة ، فهو الحكيم سبحانه وتعالى، ومن صفاته عز وجل الحكمة، لكنه تعالى لم يُطلع خلقه على حكَم كل ما شاءه أو شرعه، والشريعة تأتي بما تحار به العقول لا بما تحيله العقول، وقد أدركت الملائكة أن الله سيجعل في الأرض خليفة وأصدر الله سبحانه وتعالى أمره إليهم تفصيلا، فقال إنه سيخلق بشرا من طين، فإذا سواه ونفخ فيه من روحه فيجب على الملائكة أن تسجد له، والمفهوم أن هذا سجود تكريم لا سجود عبادة.
لأن سجود العبادة لا يكون إلا لله وحده، وجمع الله سبحانه وتعالى قبضة من تراب الأرض، فيها الأبيض والأسود والأصفر والأحمر ولهذا يجيء الناس ألوانا مختلفة، ومزج الله تعالى التراب بالماء فصار صلصالا من حمأ مسنون، وتعفن الطين وانبعثت له رائحة وكان إبليس يمر عليه فيعجب أي شيء يصير هذا الطين؟ ومن هذا الصلصال خلق الله تعالى آدم وسواه بيديه سبحانه، ونفخ فيه من روحه سبحانه، فتحرك جسد آدم ودبت فيه الحياة وفتح آدم عينيه فرأى الملائكة كلهم ساجدين له، ما عدا إبليس الذي كان يقف مع الملائكة، ولكنه لم يكن منهم، لم يسجد، ولكن هنا سؤال وهو أنه هل كان إبليس من الملائكة ؟ والظاهر أنه لا، لأنه لو كان من الملائكة ما عصى، فالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولاختلاف حال الخلق اختلف أصل خلقتهم.
فكان خلقه تعالى للملائكة من نور، وخلقه عز وجل للشياطين من نار، وخلقه لآدم من تراب، ومنه يُعلم أنه لما كان حال أولئك الخلق مختلفا كان أصل خِلقتهم مختلفا، فلما كان الملائكة للعبادة والتسبيح والطاعة ناسب أن يكون خلقهم من نور، ولما كان حال الشياطين للوسوسة والكيد والفتنة ناسب أن يكون خلقهم من نار، ولما كان الإنسان معمرا للأرض وفيه سهولة وليونة وصعوبة وشدة وطيب وخبث ناسب أن يكون خلقه من مادة تحوي ذلك كله، فالنار شيء واحد، والنور شيء واحد، لكن التراب يختلف من مكان لآخر وهذا هو حال الإنسان، فوبّخ الله سبحانه وتعالى إبليس، وقال تعالي ” قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين” فردّ إبليس اللعين بمنطق يملأه الحسد قائلا ” قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين”
وهنا وفي هذه اللحظة صدر الأمر الإلهي العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيح، فقال تعالي ” قال اخرج منها فإنك رجيم” وكما تم إنزال اللعنة عليه إلى يوم الدين، ولكن لا نعلم ما المقصود بقوله سبحانه “منها” فهل هي الجنة ؟ أم هل هي رحمة الله، وهذا وذلك جائز، ولا محل للجدل الكثير، فإنما هو الطرد واللعنة والغضب جزاء التمرد والتجرؤ على أمر الله عز وجل، فقال تعالي ” قال فالحق والحق أقول، لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين” وهنا تحول الحسد إلى حقد وإلى تصميم على الانتقام في نفس إبليس، فهنا قال إبليس كما يصور لنا المشهد القرآن الكريم “قال رب فانظرني إلي يوم يبعثون” واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه أن يجيبه إلى ما طلب وأن يمنحه الفرصة التي أراد، فكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق فيه حقده قائلا ” قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين”