النظرية الصينية حول “إنتهاء الهيمنة الأمريكية” بعد حرب أوكرانيا وترسيخ الهوية الوطنية لعالم متعدد الأقطاب وتوسيع دائرة التحالفات الدولية

النظرية الصينية حول “إنتهاء الهيمنة الأمريكية” بعد حرب أوكرانيا وترسيخ الهوية الوطنية لعالم متعدد الأقطاب وتوسيع دائرة التحالفات الدولية

تحليل: الدكتورة/ نادية حلمى

الخبيرة فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية – أستاذ مساعد العلوم السياسية جامعة بنى سويف

كان السؤال الجوهرى بعد إندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، بشأن إمكانية تضحية الصين بمصالحها الإقتصادية مع الغرب لصناعة عالم متعدد الاقطاب، أم ستظل قوة مسالمة لا شأن لها بالصراع حول القيادة؟

ومن وجهة نظرى، ففى إعتقادى الشخصى بأن النظام الدولى متعدد الأقطاب بدأت تتضح ملامحه بالفعل، وقبل إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية أساساً، بما له من أوجه تطبيقات وملامح عديدة، وهذا ربما ما أظهرته وأشارت له بحسب إطلاعى عليها عدد من الدراسات الأخيرة التى أجراها (مركز بيلفر بجامعة هارفارد الأمريكية)، بالتأكيد على أن الصين تلحق بسرعة بالولايات المتحدة الأمريكية من حيث التكنولوجيا والقدرات العسكرية والإستراتيجية، بالرغم من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على التمويل الدولى والبحث والتطوير.

وهنا، تدرك الصين جيداً الرغبة الأمريكية فى الهيمنة عالمياً والرغبة الإنفرادية الأمريكية فى القطبية الأحادية وتوجيه العالم كله، لذلك تشعر الولايات المتحدة الأمريكية بالقلق من القوتين الصينية والروسية خاصةً بعد شن روسيا لهجومها الحالى ضد أوكرانيا بسبب تدخل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب فى دوائر نفوذ روسيا، بمحاولة ضم أوكرانيا لعضوية حلف الناتو، مع إدراك أن الصين تعد أكبر ثانى إقتصاد متطور فى العالم ولديها قدرات دفاعية عسكرية هائلة، كما تعد حليفتها الروسية بمثابة قوة عسكرية هائلة تخاف منها واشنطن وحلفاؤها فى حلف الناتو، وهو ما إتضح خلال حرب أوكرانيا، فضلاً عن النفوذ الإقليمى لروسيا والصين سوياً بإمتلاكهما لحدود متشابكة ومتشابكة ولمساحات جغرافية مترامية الأطراف داخلياً وخارجياً، بالإضافة إلى وفرة الموارد، ويبقى الأبرز عندى هو تشجيع مواطنيهم على (الإيمان بفكرة المد القومى والشعور بالقومية الشعبية وبالقوة عالمياً فى مواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية لتوقيف وتحجيم قوتهما والدعوة للإلتفاف الشعبى القومى مع قياداتهما).

وتسعى الصين لتحقيق درجة عالية من التماسك الإستراتيجى مع روسيا، مع (توسيع نطاق تحالفاتهما عالمياً بين بلدان الجنوب النامية والدول الأفريقية والعربية وبلدان أمريكا اللاتينية). لذلك، تدرك الولايات المتحدة الأمريكية مدى قوة التحالف والشراكة بين الصين وروسيا، والدعم القوى لبعضهما البعض سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً. كما باتت الصين أكثر إدراكاً أنه من خلال التعاون السياسى والإقتصادى والأمنى العميق مع روسيا، ستضمن الصين إمكانية تشكيل تعددية قطبية، بوجود أكثر من قطب دولى وإقليمى حول العالم، مع التأكيد على توسيع ذلك عبر (تشجيع المزيد من مختلف البلدان النامية على الإنضمام لتحالفهما لإصلاح المنظومة العالمية الحالية التى تهيمن عليها السياسات الأمريكية وتقوض بها سيادة الدول الضعيفة والمهمشة عبر التدخل فى الشؤون الداخلية للدول لضمان سيطرتها عليهم).

ونجد أنه فى مواجهة القوة الإقتصادية الأمريكية، تمثل الصين وروسيا معاً نحو ٧٧% من الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة الأمريكية منفردة، وذلك بالقيمة الحالية للدولار وقياساً بتعادل القوة الشرائية لروسيا والصين سوياً مقارنةً بواشنطن، وفضلاً عن ذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية باتت فى الوقت الحالى مثقلة بالديون، والتى تزايدت حدتها لتصل إإلى حوالى ٣٠ تريليون دولار، مع (تجاوز نسبة الدين الأمريكى أضعاف أعلى بكثير من قيمة ونسبة الناتج المحلى الإجمالى بها، وهو الأمر الذى تدركه الصين جيداً بشأن تراجع القوة الإقتصادية الأمريكية عالمياً).

وبالنظر لتفهم الولايات المتحدة الأمريكية لمؤشرات ومحاور القوة الصين وروسيا، لذلك باتت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر ترويجاً لمفاهيم صدامية فى مواجهتهما، كأكثر الدول تهديداً للعالم. مع التركيز الأمريكى على (قضية الصعود الصينى والمواجهة الأيديولوجية مع الحزب الشيوعى الصينى كحضارة مختلفة عن الغرب والمفاهيم الليبرالية الأمريكية والغربية. نتيجة لذلك، باتت واشنطن أكثر حرصاً على عرقلة ووقف النمو الصينى تحديداً وتحجيم نطاق وحدود الشراكة والتحالف بين الصين وروسيا). وهو ما حللته بدقة خلال الحرب الأوكرانية الروسية، بالإصرار الأمريكى على ضرورة تبنى الصين لموقف واضح من تلك الحرب الروسية ضد أوكرانيا، ومحاولة واشنطن أخذ تعهدات صارمة فى مواجهة الصين لضمان عدم دعمها لروسيا إقتصادياً. وهو ما تنبهت له الصين وقياداتها الشيوعية وفطنت لتلك الأساليب الأمريكية للوقيعة بينها وبين روسيا والرئيس “بوتين”.

ويدرك العالم كله، بأن تلك العلاقات والتحالفات الوثيقة بين الصين وروسيا تعد هى حجر الزاوية الأساسى لإقامة وتشكيل نظام دولى متعدد الأقطاب، وذلك فى مواجهة السياسات الأمريكية التى لا تزال تسعى للحفاظ على تفردها المهيمن عالمياً. ولذلك، فإن الصين وروسيا تحاولان توسيع نطاق شراكاتهما الدولية من خلال (طريق الحرير الصينى، إطلاق مبادرات للشراكة التنموية مع بلدان الجنوب النامية والدول الأفريقية والعربية وبلدان أمريكا اللاتينية والجنوبية)، لأن النجاح فى تلك الإستراتيجية كفيل بكسر تلك الهيمنة الأمريكية، ويعد بمثابة ضمان أساسى للإنتقال لعالم متعدد الأقطاب.

وهنا نحلل مدى تأثير الأخطاء الإستراتيجية التى إرتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية لزعزعة الإستقرار العالمى، بزيادة حدة الصراع والإستقطاب الدولى، فضلاً عن عجزها على تحديث النظام العالمى، للتغلب على أوجه القصور والتحديات والمنافسات الجديدة، ولكن واشنطن خلقت العديد من الأزمات الدولية فى أجزاء كبيرة من العالم، مثل: (أفغانستان، العراق، سوريا، فنزويلا)… إلخ. وإنفاقها لميزانية كبيرة تعدت ٨ تريليونات دولار للحرب على الإرهاب، والتى ثبت مدى الفشل والعجز الأمريكى فى مواجهته بعد إنسحابها المهين من أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على الحكم، وهى تلك السياسات الأمريكية الفاشلة دولياً والتى تسببت فى حدوث حالة من الإنقسام العالمى فى مواجهتها.

لذلك فمن وجهة نظرى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول هنا (إستغلال أزمة الحرب الروسية الحالية ضد أوكرانيا لتوحيد جبهة حلف الناتو وأعضاؤه فى الغرب فى مواجهة روسيا والرئيس “بوتين” تحت قيادتها لتأكيد هيمنتها وتفردها عالمياً فى مواجهة الصين وروسيا، وهو ما يجب أن تفطن له دول الإتحاد الأوروبى، بالنظر لمخالفة الولايات المتحدة الأمريكية لعهودها والإضرار بمصالح شركاؤها الأوروبيين، ويعد المثال الأبرز عندى على ذلك هو التوقيع الأمريكى لإتفاقية أوكوس الدفاعية العسكرية مع أستراليا وبريطانيا فى مواجهة فرنسا)، مما تسبب فى خسارة الأوروبيين وفرنسا لتلك الصفقة تمريراً لمصالح واشنطن وأنانيتها المفرطة فى التعامل مع حلفاؤها الأوروبيين بتفضيل مصالحها عليها وتمريرها فى مواجهتهم، والإضرار بهم من الناحية العملية.

ومن جانب آخر، فقد أخفقت الولايات المتحدة الأمريكية فى التكيف مع الإقتصاد العالمى المتغير بعكس الصين بعد عدد من الأزمات الإقتصادية العالمية، مثل: (جائحة كورونا، الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨، أزمة أوكرانيا)، وغيرها. مما تسبب فى (فقدان ملايين المواطنين الأمريكيين لوظائفهم، وبالأخص فى مجال التصنيع والتكنولوجيا)، وهو ما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية التنصل منه داخلياً بإلقاء اللوم على السياسات التجارية غير العادلة التى تنتهجها الصين دولياً فى مواجهتهم.

وسنجد هنا مدى إصرار الرئيس الصينى “شى جين بينغ” فى كافة خطاباته السياسية على التأكيد على مفهوم (المصير المشترك للبشرية)، والتأكيد على شعاره حول (الحلم الصين)، بتحقيق مجتمع رغيد الحياة، والعمل وفق مبدأ المنفعة المتبادلة للجميع، والربح للجميع دولياً. مع تركيز الرئيس “شى جين بينغ” على المسار ‏المؤدى إلى تحقيق هذا الحلم الصينى، عبر ثلاث محاور، هى: (الطريق الصينى، الروح الصينية، والقوة ‏الصينية).

كما أن تركيز خطابات الرئيس الصينى الرفيق “شى جين بينغ” على مفاتيح وآليات تطبيق هذا الحلم الصينى فى عالم متعدد الأقطاب دولياً، ومدى ملائمة ذلك للصين وبقية العالم. فنجد أن جوهر تطبيق هذا الحلم الصينى داخلياً للوصول إلى عالم متعدد الأقطاب دولياً بعيداً عن مفاهيم الهيمنة الأمريكية، ومن هنا فقد أصبح هذا الحلم الصينى لعالم متعدد الأطراف الدولية، هو بمثابة (جوهر الهوية الوطنية الصينية بالسعى لإستعادة نفوذها كقوة عبر إتباع الصين وقيادات الحزب الشيوعى الحاكم لعدة سياسات مهمة، تشمل محاور خطط السياسات التنموية ‏والإصلاحية فى أنحاء الصين). بحيث تعكس فى نهاية الأمر كل (مكونات الثقافة والقيم الإشتراكية ‏الأساسية للصين، فضلاً عن تلك الروح الصينية المتناغمة مع أهداف الدولة الصينية والأمة وكافة أبناء الشعب الصينى).

وبناءاً على هذا الطرح، يمكننا التوصل بأن الهيمنة الأمريكية قد إنتهت عالمياً بالفعل أو فى طريقها إلى الزوال أو التلاشى، ولكن تحقيق (توازن قوى عالمى مستقر) مازال أمر ممكن الحدوث.