العبقرية الفيحاء لأمير الشعراء
بقلم الإعلامي أحمد العش
العبقرية الفيحاء لأمير الشعراء
كلما هممت بالكتابة عن أحمد شوقي، دفعتني المقادير إلى الكفاف إرجاءً لا انزواءً، ذلك أن أمر الحديث عن قامةٍ وشامةٍ بمثل شوقي، يحتاج إلى توقيتٍ زمنىٍ ومعنوى يتناسب طردياً، مع عظمة تاريخه الأدبي، ورفعة مجده الشعري، بيد أنه ليس هناك توقيتٌ زمنيٌ أكثر تناسباً وتناغماً، في بلورة سيرورة هذا الجبل الأشم، من هذا التوقيت الأكتوبري، الذي تحل فيه ذكرتا مولده ووفاته، فتلك مفارقة تاريخية رقمية عجيبة، كإحدى الشواهد القطعية على منح الله لشوقي .. فمولده يوم ١٧ أكتوبر ١٨٧٠م، ووفاته في ١٤ أكتوبر ١٩٣٢م…
وإذ حدثتك عن أحمد شوقي ، حرى بي أن أستثير في ذاتيتك، مكامن التوق اللغوي، ومواطن الشوق الثقافي، لمعرفة رجل كان بمثابة منحة الأقدار لمصر، إبان الانتكاس الديني والوطني ، والارتكاس الثقافي واللغوي، اللذان عصفا بمصر على حين غرة، وأرادا بخصوصيتها الإسلامية، وبهويتها اللغوية كيداً، لردحٍ من الزمان كبيراً….
لقد أحيا الله بأحمد شوقي لغة القرآن، من البطش والطمس والذوبان، في خبر كان، إذ جعل له لسان صدق في حذق قواعدها ومفرداتها، وألفاظها ومعانيها، وألوان بلاغتها قافيةً وتوريةً وسجعاً وجناساً…
فلما امتلك ناصيتها، غرد في سربها، ولهج بأصالتها وتوهج في محرابها، فألبسته حلة الفخر، وقلدته درة الشعر، وتوجته أيقونة النثر، ونصبته أميراً لمعشر الشعراء، بمحض إرادتهم في البيعة الميمونة عام ١٩٢٧م، بوفد كبير يتزعمه صنوه حافظ إبراهيم قائلاً أمير القوافى قد أتيت مبايعاً _ وهذى وفود الشرق قد بايعت معى )
لا جرم أن شوقي رحمه الله كان باعثاً ومجدداً للغة العربية حق التجديد، إيماناً منه بتراثها التليد، فنسج من حروفها المتناثرة، الحكمة البالغة ، على لسانه ومن بنانه إلى قرطاسه، فبدت للناظرين والسامعين فى أجل معنى وأجمل مغزى، ويكأنها التى لا يأتيها باطلٌ من بين يديها ولا من خلفها…
ولما كان اللحن فى اللغة أقرب للسمت المخجل، كان شوقي يعزف على أوتارها منفرداً وكأنه وليدها المدلل، فأضحى بها ضمير مصر المتكلم، وواحد من قواعدها الحضارية العتيقة، والتى لا يمحوها إلا ريب المنون، فهو كنهر النيل فى سليانه، والهرم فى ثباته، وجامعة القاهرة فى تنويرها، ومكتبة الإسكندرية فى إشعاعها الثقافى، وبالجملة شاعر العروبة والإسلام… وصاحب القدح المعلي، الذى لا يباريه أو يقارعه أحدٌ، بثقة متنامية متناهية في نفسه، وبثروته اللغوية وبإحيائه للتراثية الشعرية، التى ذهبت مع هجير الأيام والأحقبة…
وليس بضائره ازدراء بعض خصومه، وشرودهم عن منهجه المكين كالعقاد وغيره، فلعَمري أن شوقي هو منقذ لغة الضاد من الضلال، بعد أن نفخ في روحها، لتعود حية أبية، شامخة راسخة، وسط طلاسم لغات العالم، فاقدة الروح والمعنى، وفقيرة الحس والمغزى…
كان أحمد شوقي قيثارة بكل ما تحمله الكلمة من معان، وكأنه متنبي عصره، ولعلي أراه قد فاق المتنبي، فالمتنبي كان عملاقاً بين عمالقة، كأبي تمام وأبي نواس وابن الرومي والبحتري وغيرهم، فضلاً عن لوعة الحكام باللغة والشعر كسيف الدولة وغيره، أما شوقي فهو نسيج وحده، فريد عصره، فلتة زمانه، الذي إن اجتمع أترابه من الشعراء، ما بلغوا مُده ولا نصيفه…
وليعحب المرء حق تعجبه، لما يسمع أن أحمد شوقي رحمه الله، مزيجٌ من أجناس متعددة ومختلفة، فقد اختلطت في سيكولوچيته المصرية والكردية والتركية واليونانية، ورغم ابتعاثه لفرنسا للدراسة في جامعة مونبليه، إلا أن حنينه وأنينه للنزعة الإسلامية والعربية والخلافة العثمانية، لن تتزعزع قيد أنمله، ففي كل واد من هؤلاء الثلاثة، سنا برق شعره وسما بريق نثره، فأنشد متغنياً بأهازيج النصر تارةً، وبترانيم المسرات طوراً، وبشجو الألم في الرثاء حيناً….
وأينما ولي شوقي قبلته إلى فن من فنون اللغة، كان وحده الألمعي العبقري ، النحرير اللبيب، الأديب الأريب، رصين الأسلوب، جزل اللفظ فخم المعنى، وكان ديوان شوقياته الفخيم، الذى لم يُر مثله فى البلاد، خير شاهد على ذلك الاعتماد والكدح والاجتهاد…
كان أحمد شوقي آية متوقدة الذكاء، في حسه وحدسه، وبصره وبصيرته ، فأهلته هذه الخلال وتلك الملكات ، إلى براعة الوصف والتوصيف ، للتصوير الإبداعي رقة ودقة، فكأنما عينان تجريان في التاريخ، وما فتىء مبدعاً يتفيأُ ظلال الجمال التعبيرى، عن اليمين شعراً وعن الشمائل حكمة ونثراً..
ولا غرو أن يتبوأ أحمد شوقي هذه المكانة السامقة، فقد كان شيخنا الجليل محمد متولى الشعراوي رحمه الله يقول عنه، لا تقولوا شوقي رحمه الله، ولكن قولوا شوقي رضى الله عنه، فقد ثبت أن شيخ الأزهر العلامة محمد الظواهري، قد جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرؤية، وأغدق عليه برسالة إلى أحمد شوقي، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم راضٍ عنه، وأنه سيحل عنده بعد أيام، فتلقف أحمد شوقي هذه الرسالة البشرى، وفاضت روحه بعد أيام…
بقية الحديث عن عبقرية شوقي، في المقال القادم بمشيئة الله تعالى، والعروج إلى قبسات من وحي موهبته الفذة