العبقرية الفيحاء لأمير الشعراء (2)
بقلم / أحمد العش
نبدا مع الجزء الثاني ،العبقرية الفيحاء لأمير الشعراء .
ومع تباشير القرن العشرين، كانت مصر قبلة النظار، لما تشهده أرضها من زخم الأحداث السياسية والاجتماعية متتابعة المدرار، فقد بزغ نجم الوجوه النضالية، المشبوبة بالوطنية، والمصبوغة بالتنويرية، وأولئك وهؤلاء، شعراء وأدباء، فظهر إلى جانب أحمد شوقي، محمود سامي البارودي، شاعر السيف والقلم، والذي اعتبره البعض إرهاصاً لمولد شوقي، وعلى ذات خط التماس كان إسماعيل باشا صبري، كما كانت هذه الحقبة مرتعاً خصباً، لنهضة الحركة الأدبية، المعزوة إلى عباس العقاد ومصطفي صادق الرافعي ومصطفي لطفي المنفلوطي، غير أن تقعرهم اللغوي، في طرح إنتاجهم الأدبي، ووسم بعضهم بالبأو والغرور ولاسيما العقاد، الذي رُمي بصريح النقد اللاذع، بلواذه عن أفهام البسطاء في النمط الكتابي، فأشاح عنهم متبختراً أنا أكتب للخاصة ولا يضيرني استهجان العامة، أو كما قال مثلها أو نحوها… كان ذلك إيذاناً لنزوح العامة إلى الشعر المنظوم على لسان شوقي تحديداً، والذي أفاض بإبداعاته المكنونة، كل ركن ركين في الشاعرية المتكاملة، فسد الأغوار ما أوتي إلى ذلك سبيلا، بغيض من فيض، قصائده الدينية، وملاحمه الوطنية، ونبراته الرثائية، ومدائحه التقية ، وهجائاته المدوية ، وغزله العفيف بقلبه الأسيف… وتالله إنها الخصال الشماء لبحر شوقي الذي لا تكدره الدلاء… ولا تثريب أن يلج أحمد شوقي بشعره إلى تأطير الشكل وتحبير المضمون، ليلامس الشعور الجمعي، برنين كلماته وأنين مؤثراته… ولا جرم أنّ نحت شوقى للمعاني نحتا، قد ثقّل موازينه في عالم الشعر شرقيه وغربيه ، وجعل منه عبقرية منقطعة القرين، متفردة التمكين، فأصبح كالشمس للدنيا والعافية للناس، ذلكم التوصيف الذي وصف به يوماً إمامنا الألمعي اللوذعي، محمد بن إدريس الشافعي، قبة الفلك وبالغ الحظوة في الفقه والحكمة والأدب والشعر، وكان بين الشافعي وشوقي قاسم مشترك أعظم، في المحيا والممات على أرض مصر..
ومع عظم منزلة شوقي، كآخر فحول الشعر العربي كماً وكيفاً، لم يتسع اسمه العريض والعريق ، ليُنقش على معلمٍ واحدٍ من معالم مصر، وايم الله لهي الطامة في أوجع معانيها، إذا ما قورن بعشرات الأقزام في السلف والخلف، أو إذا ما قورع بأحد أتراب عصره، بطرس غالي المطبوع بالخيانة الوطنية، لضلوعه في إعدام ستة مصريين، إبان حادثة دنشواي، وكيف كوفيء بإطلاق اسمه على أحد شوارع القاهرة الكبرى…
لقد سلك أحمد شوقي كل طرائق الإبداع قددا، وأجزل في العطاء لصنعة الشعر خاصة، وترك إرثاً فياضاً من أعذب القصائد، التي كان البيت الواحد منها، يغني كل حثيث على طلب الشعر والحكمة، فما كان يلفظ قولاً إلا ولقفته الآلاف بعد الآلاف تترى.. وتراه المستفيض كماً والموجز وصفاً في خلتين فريدتين.. فقد جمل الأخلاق تجميلا، ببيت رائع ماتع، يُصلح أن يكون ميثاقاً لمعشر العلماء والمعلمين في كل وقوتناوب المدح والهجاء بلسان الصدق، فبينما امتطى صهوة الإعجاب بفدائية الضابط التركى مصطفي أتاتورك، قائلاً الله أكبر كم في الفتح من عجب – يا خالد الترك جدد خالد العرب) إذا به يهجوه بعد تآمره على خلافة بنى عثمان، مرثىٌ زوال الخلافة العتيقة بقصيدة واحدة منها بكت الصلاة وتلك فتنة عابث – بالشرع عربيد القضاء وقاح – أفتى خزعبلة وقال ضلالة – وأتى بكفر في البلاد بواح – ضجت عليك مآذن ومنابر – وبكت عليك ممالك ونواح – الهند والهة ومصر حزينة – تبكى عليك بمدمع سحاح – والشام تسأل والعراق وفارس – أمحا من الأرض الخلافة ماح)
وسطر أجمل المنظوم، في حب الأكمل المعصوم، خير البرية، بقصيدتا الهمزية والميمية… ولو لم ينظم شوقى في كل مسيرته الشعرية غيرهما، لكفتاه!!! فبهما أحيا أعظم المدائح النبوية المنثورة،،،
منذ حسان بن ثابت وكعب بن زهير رضى الله عنهما، ذلك رجع بعيد… فيجول شوقي شاخصا ببصره، إلى كل المعاني في دوحة الضاد الوارفة، لينسج منها أطيب ما يناسب المقام النبوي العظيم، ليقول في همزيته ( ما جئت بابك مادحاً بل داعياً – ومن المديح تضرع ودعاء – لي في مديحك يا رسول عرائس – تيمن فيك وشامتهن جلاء – ولد الهدى فالكائنات ضياء – وفم الزمان تبسم وثناء – الروح والملاء الملائك حوله – للدين والدنيا به بشراء – يوم يتيه الزمان صباحه – ومساؤه بمولد محمد وضاء)
وعلى ذات النسق يبدع القول والكلم في رائعته الميمية ( ريم على القاع بين البان والعلم – أحل سفك دمي في الأشهر الحرم – رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا – يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم) رحم الله أحمد شوق، حامل لواء الشعر، الذي لم يثكل بريقه قط، لا في صباه ولا في منفاه، والذي إن دبجت آلاف الصحائف عن مناقبه وخصائص قصائده القريبة من نيف وأربعة وعشرين ألف قصيدة، ما وفي حقه اللائق والرائقت وحين