الدكرورى يكتب عن سر بناء مدينة القيروان ” جزء 4″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
سر بناء مدينة القيروان ” جزء 4″
ونكمل الجزء الرابع مع سر بناء مدينة القيروان، ولقد كان للقيروان دور كبير فى نشر وتعليم الدين وعلومه بحكم ما علق على هذه المدينة، من آمال في هداية الناس وجلبهم إلى إفريقية وهي نقطة هامة لاحظها الفاتحون منذ أن استقر رأيهم على إنشاء مدينة القيروان، فعندما عزم عقبة بن نافع ومن معه على وضع محراب المسجد الجامع فكروا كثيرا في متجه القبلة، وراقبوا طلوع الشمس وغروبها عدة أيام، وقال له أصحابه إن أهل المغرب يضعون قبلتهم على قبلة هذا المسجد فأجهد نفسك في تقويمه، واجتهد عقبة بن نافع وكان موفقا في اجتهاده وأصبح محراب القيروان أسوة وقدوة لبقية مساجد المغرب الإسلامي بمعناه الواسع حتى إن محمد بن حارث الخشني بعد أن قدم من القيروان إلى سبتة.
وشاهد انحراف مسجدها عن قبلة الصلاة عدله وصوبه، وفى عهد الخليفة الأموى عمر بن عبد العزيز فى عام تسعه وتسعسن من الهجره قد أراد تثقيف أهل المغرب وتعليمهم أمر دينهم فجعل من مدينة القيروان مركزا للبعثة العلمية المكونة من عشرة أشخاص من التابعين فأرسلهم إلى إفريقية حيث انقطعوا إلى تعليم السكان أمور الدين، ومات غالب أفراد البعثة فى مدينة القيروان نفسها، وهكذا أصبحت مدينة القيروان مركزا للعلم فى المغرب الإسلامى حتى كانت مفخرة المغرب ومنها خرجت علوم المذهب المالكى، وإلى أئمتها كل عالم ينتسب وكان قاضى القيروان يمثل أعلى منصب دينى فى عموم البلاد المغربية، وإليه المرجع في تسمية قضاة مختلف الجهات.
وقد أسهمت القيروان في عهد الأغالبة في نشر المذهب المالكي في أرجاء الدولة الأغلبية، ومنها انتشر في صقلية والأندلس، وقد تم ذلك على يد الإمام سحنون فى عام مائة وستون من الهجرة، وأقرانه وتلاميذه، فهؤلاء كانوا يلتزمون المذهب المالكى، إذ أنهم كانوا يذهبون لأداء فريضة الحج، ثم يلزمون الإمام مالك بن أنس في المدينة المنورة، فتأثروا بفقهه، وقد ولى سحنون قضاء القيروان عام مائتان واربعة وثلاثين من الهجريه فكان صاحب النفوذ الأكبر لا في شئون القضاء فحسب، بل فى جميع شئون الدولة ولما عاد سحنون من المدينة المنورة كان قد وضع أسس الكتاب الذي دونه ويسمى المدونة التى أصبحت قاعدة التدريس في المغرب الأدنى.
ومن هناك انتقلت إلى الأندلس وكانت الكتب الفقهية التي ألفها علماء القيروان ابتداء من كتاب المدونة لصاحبه الفقيه الكبير سحنون والذي أصبح مرجعا دينيا لرجال القيروان، إلى رسالة ابن أبي زيد ونوادره وزياداته إلى تهذيب أبي سعيد البراذعى، وكانت هذه الكتب وأمثالها عمدة الدارسين والشراح والمعلقين لا يعرفون غيرها إلى المائة السابعة من التاريخ الهجرى عندما ابتدأت كتب المشارقة تأتى إلى المغرب مثل مختصر ابن الحاجب ومختصر خليل فيما بعد، وقد أنشئت في القيروان المكتبات العامة والمكتبات الملحقة بالجوامع والمدارس والزوايا وكانت مفتوحة للدارسين وتضم نفائس أمهات الكتب، ومن أشهر مكتبات القيروان بيت الحكمة الذي أنشأه إبراهيم الثانى الأغلبى.
في رقادة بالقيروان محاكاة لبيت الحكمة التي أسسها هارون الرشيد في بغداد حيث كانت هذه البيت نواة لمدرسة الطب القيروانية التى أثرت فى الحركة العلمية فى المغرب لزمن طويل، وقد استقدم إبراهيم بن أحمد الأغلبى أعدادا كبيرة من علماء، الفلك والطب والنبات والهندسة والرياضيات من المشرق والمغرب وزوده بالآلات الفلكية، وكان إبراهيم بن أحمد يبعث كل عام وأحيانا كل ستة أشهر بعثة إلى بغداد هدفها تجديد ولائه للخلافة العباسية واقتناء نفائس الكتب المشرقية فى الحكمة والفلك مما لا نظير له في المغرب واستقدام مشاهير العلماء فى العراق ومصر، وعلى هذا النحو أمكنه فى أمد قصير أن يقيم فى رقادة نموذجا مصغرا من بيت الحكمة في بغداد.