سر بناء مدينة القيروان ” جزء 5″

الدكرورى يكتب عن سر بناء مدينة القيروان ” جزء 5″

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

سر بناء مدينة القيروان ” جزء 5″

ونكمل الجزء الخامس مع سر بناء مدينة القيروان، وعلى هذا النحو أمكنه فى أمد قصير أن يقيم فى رقادة نموذجا مصغرا من بيت الحكمة في بغداد، ولم يلبث هذا البيت أن وقع فى أيدى الفاطميين بعد سنوات معدودة من وفاته، ولقد كان بيت الحكمة معهدا علميا للدرس والبحث العلمى والترجمة من اللاتينية، ومركزا لنسخ المصنفات، وكان يتولى الإشراف عليه حفظة مهمتهم السهر على حراسة ما يحتويه من كتب، وتزويد الباحثين والمترددين عليه من طلاب العلم بما يلزمهم من هذه الكتب حسب تخصصاتهم، ويرأس هؤلاء الحفظة ناظر، كان يعرف بصاحب بيت الحكمة، وأول من تولى هذا المنصب عالم الرياضيات أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني الكاتب المعروف بأبى اليسر الرياضي.

وهو بغدادي النشأة، حيث أتيح له أن يلتقي بالعديد من المحدثين والفقهاء والأدباء واللغويين، وكان قد تنقل فى أقطار المشرق قبل أنتقاله إلى الأندلس وأخيرا استقر بالقيروان، وكان الأمير إبراهيم بن أحمد يعقد المجالس العلمية للمناظرة في بيت الحكمة، وكان يحضر هذه المجالس العلماء البارزون من فقهاء المالكية والحنفية، ولقد لعبت مدينة القيروان دورا رئيسيا في القرون الإسلامية الأولى، فكانت العاصمة السياسية للمغرب الإسلامى ومركز الثقل فيه منذ ابتداء الفتح إلى آخر دولة الأمويين بدمشق، وعندما تأسست الخلافة العباسية ببغداد رأت فيها عاصمة العباسيين خير مساند لها لما أصبح يهدد الدولة الناشئة من خطر الانقسام والتفكك.

ومع ظهور عدة دول مناوئة للعاصمة العباسية فى المغرب الإسلامى فقد نشأت دولة الأمويين بالأندلس، ونشأت الدولة الرستمية فى الجزائر، ونشأت الدولة الإدريسية العلوية فى المغرب الأقصى، وكانت كل دولة من تلك الدول تحمل عداوة لبنى العباس خاصة الدولة الإدريسية الشيعية التي تعتبرها بغداد أكبر خطر يهددها، لهذا كله رأى هارون الرشيد أن يتخذ سدا منيعا يحول دون تسرب الخطر الشيعى، ولم يرى إلا عاصمة إفريقية قادرة على ذلك، فأعطى لإبراهيم بن الأغلب الاستقلال فى النفوذ وتسلسل الإمارة في نسله، وقامت دولة الأغالبة كوحدة مستقلة ومدافعة عن الخلافة، وقد كانت دولة الأغالبة هذا الدرع المنيع أيام استقرارها، ونجحت في ضم صقلية إلى ملكها.

وقام أمراؤها الأوائل بأعمال بنائية ضخمة فى القيروان ذاتها ومنها توسيع الجامع فى القيروان، وتوسيع الجامع فى تونس، كما عمل الأغالبة على الاهتمام بالزراعة والرى فى المنطقة، وأقاموا الفسقية المشهورة، وقد استغل الأمراء الأغالبة تلك المكانة واتخذوها سلاحا يهددون به عاصمة بغداد فكلما هم خليفة من خلفائها بالتقليل من شأن الأمراء الأغالبة أو انتقاص سيادتهم، وهذا ما فعله زيادة الله بن الأغلب مع الخليفة المأمون العباسى، فقد أراد هذا الأخير إلحاق القيراون بولاية مصر، وطلب من زيادة الله أن يدعو لعبد الله بن طاهر بن الحسين والي المأمون على مصر فأدخل زيادة الله رسول المأمون إليه، وقال له إن الخليفة يأمرنى بالدعاء لعبد خزاعة.

وهذا لا يكون أبدا ثم مد يده إلى كيس بجنبه فيه ألف دينار ودفعه للرسول، وكان فى الكيس دنانير مضروبة باسم الأدارسة في المغرب، ففهم المأمون مقصد الأمير الأغلبى فكف عن محاولته ولم يعد إليها، وبسبب هذه المكانة فقد عمل على التقرب منها أكبر ملك في أوروبا إذ بعث الإمبراطور شارلمان بسفرائه إلى إبراهيم بن الأغلب فقابلهم في دار الإمارة بالعباسية في أبهة عجيبة بالرغم من الصلات الودية التي كانت بين هذا الإمبراطور والخليفة العباسى هارون الرشيد، ويعد مسجد القيروان الذى بناه عقبة بن نافع عند إنشاء المدينة من أهم معالمها عبر التاريخ، ولقد بدأ المسجد صغير المساحة، بسيط البناء، ولكن لم يمض على بنائه عشرون عاما، حتى هدمه حسان بن نعمان الغسانى.