سر بناء مدينة القيروان ” جزء 9″

الدكرورى يكتب عن سر بناء مدينة القيروان ” جزء 9″

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

سر بناء مدينة القيروان ” جزء 9″

ونكمل الجزء التاسع مع سر بناء مدينة القيروان، ولولا الظروف السياسية والوضع الداخلى للفاطميين لاستولوا على بغداد نفسها، وعندما انتقل بنو عبيد إلى مصر ووصل المعز لدين الله الفاطمي القاهرة عام ثلاثة مائة واثنين وستين هجريا اهتموا بالقيروان واتخذوها مركزا لنائبهم في إفريقية، وعهدوا إليه بالسهر على حفظ وحدة المغرب والسيطرة عليه، واستخلف المعز الفاطمى بلكين بن زيرى الصنهاجى على إفريقية، وكتب إلى العمال وولاة الأشغال بالسمع والطاعة له فأصبح أميرا على إفريقية والمغرب كله، وقام بلكين وخلفاؤه بقمع الثورات التى حصلت خاصة فى المغرب فى قبائل زنانة واستمر المغرب فى وحدته الصنهاجية وتبعيته إلى مصر الفاطمية إلى أن انقسم البيت الصنهاجى على نفسه فاستقل حماد الصنهاجى عن القيروان.

متخذا من القلعة التى بناها قاعدة لإمارته، وكان هذا الانقسام السياسى خير ممهد لظهور دولة المرابطين في المغرب الأقصى، كما كان لهذا الانقسام نتائجه الأليمة فيما بعد عندما أعلن المعز ابن باديس الصنهاجى استقلاله عن الفاطميين، فبعثوا إليه بقبائل الأعراب من الهلاليين فمزق شمل الدولة، وقضى على معالم الحضارة، وخربت القيروان، ولم تعد العاصمة السياسية القوية أو مركزا تشع منه المعارف والعلوم والآداب، وتقع مدينة القيروان فى شمال ووسط تونس، وهى إحدى المدن الإسلامية المقدسة، وتمتد مدينة القيروان على طول السهول الطمية المنخفضة فى الأراضى التونسية، وتشتهر مدينة القيروان باقتصادها الذى يعتمد على الزراعة من المقام الأول، حيث تشكل الحبوب المصادر الرئيسية الإيرادات الرئيسية للمدينة.

كما تشتهر المدينة بمنتجاتها الجلدية، وإنتاج الزيتون، وأدوات السيراميك، والحرف اليدوية المحلية، وكذلك السجاد الرائع الذى يستحق الشراء، ولقد عزل معاوية بن أبى سفيان معاوية بن حديج الكندي عن إفريقية، واقتصر به على ولاية مصر، وولى إفريقية عقبة بن نافع بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية، وكان مولده فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم وكان مقيما بنواحى برقة وزويلة منذ تولية عمرو بن العاص رضي الله عنه له، فجمع إليه مَن أسلم من البربر وضمهم إلى الجيش الوارد من قِبل معاوية، وكان جيش معاوية عشرة آلاف وسار إلى إفريقية ونازل مدنها، فافتتحها عنوة ووضع السيف فى أهلها، وأسلم على يده خلق من البربر، وفشا فيها دين الله حتى اتصل ببلاد السودان، وقد نظر عقبة فى أحوال إفريقية نظر الحاذق البصير.

فرأى أنه لن يستقيم لها أمر إلا باستقرار المسلمين فيها بصفة نهائية، لا كما يفعل مَن سبقه من القادة، فيقول عقبة في هذا إن إفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع مَن كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر، وأرى لكم معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة نجعل فيها عسكرا، وتكون عز الإسلام إلى آخر الدهر، فبنى لهم مدينة القيروان، وقد رأى عقبة أن من أسباب تراجع المسلمين عن إفريقية، هو طول خط المواصلات بينهم وبين أقرب مرتكز لهم وهو الفسطاط، فاستقر رأيه على أن خير وسيلة للاستقرار بالمغرب إنما تكمن فى الاحتفاظ بجيش دائم، وأن ذلك يستدعى إنشاء مدينة جديدة تكون مقر عسكر المسلمين وموطن أهلهم، فاختار لذلك موقعا له ميزات عديدة من حيث الحرب والاقتصاد والمواصلات.

فأنشأ القيروان فى رقعة تكفى لتموين الحامية ومن معها، بعيدة عن الساحل بحيث لا ينالها الأسطول الرومى، وفى نفس الوقت تكون مواجهة لجبل أوراس الذى كثيرا ما قاوم سكانه الفاتحين من قبل، واستصوب صحابة عقبة بن نافع رأيه، فجاؤوا إلى موضع القيروان، وهى فى طرف البر وهى أجمة عظيمة وغيضة لا يشقها الحيات من تشابك أشجارها، وقد أمر عقبة بن نافع أصحابه بالبناء فقالوا هذه غياض كثيرة السباع والهوام فنخاف على أنفسنا هنا، وكان عقبة مستجاب الدعوة، فجمع من كان فى عسكره من الصحابة رضوان الله عليهم جميعا وكانوا ثمانية عشر ونادى أيتها الحشرات والسباع، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فارحلوا عنا فإنا نازلون، فمن وجدناه بعد قتلناه، فنظر الناس يومئذ إلى أمر هائل.

كان السبع يحمل أشباله والذئب يحمل أجراءه والحية تحمل أولادها وهم خارجون أسرابا أسرابا، فحمل ذلك كثيرا من البربر على الإسلام، وتعتبر مدينة القيروان من أقدم وأهم المدن الإسلامية، بل هى المدينة الإسلامية الأولى فى منطقة المغرب ويعتبر إنشاء مدينة القيروان بداية تاريخ الحضارة العربية الإسلامية فى المغرب العربى، فلقد كانت مدينة القيروان تلعب دورين مهمين فى آن واحد، هما الجهاد والدعوة، فبينما كانت الجيوش تخرج للغزو والتوسعات، كان الفقهاء يخرجون منها لينتشروا بين البلاد يعلمون العربية وينشرون الإسلام فهى بذلك تحمل فى كل شبر من أرضها عطر مجد شامخ وإرثا عريقا يؤكده تاريخها الزاهر ومعالمها الباقية التى تمثل مراحل مهمة من التاريخ العربى الإسلامى.