عبدالحى عطوان يكتب : بائعة العطر والوزيرى ورحلة قطار 682
شاءت الأقدار أن أسافر بقطار 682 ، قيام الثانية عشرة القاهرة حصلت على تذكرة بعد عناء لا أخفى عليكم سراً من السوق السوداء، دخلت عربتى رقم 10 جلست بجوار النافذة أترقب قيام القطار، وأتابع بعيناى الرصيف والمارين به والجالسين على مقاعده، وسرعان ما تحولت العربة إلى سوق للبيع والشراء، وتحول القطار الى أصوات وصراخ أختلطت مابين عروض السلع ،فهذا بائع للشاى، وهذا للسندوتشات وآخر بائع مناديل ،كروت شحن، قهوة ببييسي ، حتى كتيبات تعليم الأطفال وشواحن الهواتف، وزجاجات المياه والعسلية، وتسالى اللب والسودانى وخلافه،
حاولت أن أبتعد بنظرى للخارج حتى أتخلص من ذلك الضجيج و الصراخ حتى لفت نظرى سماع صوت فتاه تنادى على الركاب ببيع زجاجات العطر، وإذا بالشاب الذى يجلس على المقعد الأمامي مباشرة أستوقفها، وسألها عن الأنواع والأسعار وبدأت أتنبه لأطراف الحديث، فقد كانت الأصوات عالية، والكلمات مسموعه،تشرح له نوعية هذا العطر والفرق بين هذا وذاك، وأحيانا تنطق كلمة بالفرنسية تسمية لهذا العطر فٱيقنت من لغتها أنها خريجة إحدى الجامعات، فأنتبهت إليها فوجدتها وقد أكتست ملامحها بقسوة الزمن، وضربت لفحة الشمس كل بشرتها، برغم أن صوتها وكأنها فى الثلاثين من العمر، وسرعان ما أقنعت المشترى ببضاعتها فأشترى زجاجة من عطورها، فإذا بها تضع الفلوس بجيبها وتغادر مسرعه إلى عربة أخرى قبل تحرك القطار،
دقائق معدودة وأنتبهت إلى أصوات صاخبة قادمة من أسرة جلست فى المقعدين المواجه والمجاور لى أدركت من الوهلة الأولى أنها نوبية أو أسوانية من طبيعة البشرة ولكنة الكلمات، والسؤال عن ميعاد تحرك القطار، وكان من نصيبي أن يجلس أحد أبنائهم بجوارى لم أعير الأمر أهتماماً فساعات ونفترق وتصبح الرحلة مجرد رقم فى الذاكرة قد يسقط مع مرور الزمن ،
وماحاولت أن أزيح عيناي بعيداً حتى بدأت تتصارع الأفكار داخلها لماذا أصبحت الحياة هكذا طبقات شاسعه لماذا كتب على الغالبية المعاناة بينما هناك من يئن ويتوجع من شدة الرفاهية ،لحظتها أطلت كلمات عادل إمام الشهيرة هى دى مصر إلا يشوفها من فوق بخلاف إلا يشوفها من تحت، أسندت راسي على مقعدى وسرحت بأفكارى أحلم باستقلالى يوماً القطار الكهربائي أو الطائرة إلى محافظتى، وأن تصبح آلية السفر لدينا رفاهية مثل علية القوم إلا أنى إستيقظت من حلمى على صوت الأخ الأكبر وهو ينادى على الشاب المجاور لمقعدى يطالبه بأخذ الدواء فقد جاء الميعاد فأدركت أنها رحلة علاج بالقاهرة فهمهمت له بالدعاء
لحظات ثقيله مرت على قبل أن يتحرك وكأنه أراد منى شيئاً لا أدركه فسرعان ما أنتبهت إلى صوت بائع آخر ينادى ببيع زجاجات العطر أيضاً، وقد توقف مواجهاً الراكب الذى يجلس أمامى، وهو يحمل بيدة زجاجة العطر التى أشتراها من قبل وسأله بكم أشتريت هذه الزجاجة؟ وهل باعتها لك فتاة سمراء اللون؟ وقبل أن ينطق بادره مسرعاً مقتضب الوجه أنا أبيعها بعشرة جنيهات فأجابه الرجل أشتريتها برزق صاحبتها، فقال له بكم وأستطرد قائلاً هى أكيد باعتها لك غالية فهى تبالغ فى أسعارها كثيراً ،
فوجدت نفسي منفعلاً أتدخل فى حوار دون أرادتى قائلاً له ماذا يعنيك من ذلك ؟ هى باعت وهو أشترى وأرتضى ، وهذا رزقها فما الضرر الذى وقع عليك حتى تسئ إليها وإلى بضاعتها، وتذم فى ذمتها، فأجابنى قائلاً لأن هذا القطار ليس لها الحق فى ركوبه ولا البيع فيه، أنا هنا من عشرة سنوات، وهى ليس لها إلا ثلاثة شهور لكن تركناها لأجل خاطر ظروفها وأحوالها
،
فوجدت نفسي أنفعل أكثر قائلاً طالما الأمر كذلك وتعرف قسوة ظروفها ، دعنى أسألك هل أنت حصلت على هذا القطار عن طريق إرث أجدادك، أم حصلت علية بمزاد علنى، أم لديك توكيل عام من وزير النقل، حتى تتحكم وتمنع أو توافق من يبيع ويشترى به،أنت بائع مثلها، وبالقانون لا يحق لك ركوب هذا القطار، وأزعاجنا فنحن لسنا فى سوق للبيع والشراء، وإذا كنا نحن نحتملك لظروفك إلا تحتمل أنت زميلتك التى تجرى على قوت أهلها، فكن حكيماً مؤمناً بأن الأرزاق على الله ،
وقف صامتاً مذهولاً وشعرت أنه يفكر بداخله ،ويسأل نفسه ألف سؤال وسؤال من أين أنا جئت له لأحرجه هكذا، فأذا به يصيح فى وجهى ووجه الجميع وأنت ما دخلك بنا وما علاقتك بالموضوع ؟ فأستطردت قائلاً ياسيدى وانت ما دخلك بمن باع وبمن أشترى وماذا تجنى أنت عندما لا تبيع ولا تشترى هذة الفتاة وتصبح من العاطلين؟
فنظرت للنافذة طويلاً وبدأت أتحدث مع نفسي ومع الله على قسوة الزمن عندما يأتى على الغلابه والبسطاء بشدة ، وجالت بذاكرتى سنوات العمر كم مرت على وكم حصدت من الذكريات سفراً ذهاباً وأياباً، وكم من تلك النماذج قابلتنا فأوجعت شجوننا، وتساءلت هل هذه الشريحة من البشر تعرف عنها الدولة شيئاً ؟ هل لديها قاعدة بيانات عنها؟ وعن ظروفها المعيشية هل توليها بالفعل أهتمامآ ورعايا ؟هل ما يحدث داخل قطار 682 يتماشي مع الدولة المدنية الحديثة التى نراها على شاشات التلفاز وفى خطب وزيارات المسئولين ؟
وفى النهاية … لأبد للمسئولين أن تعى ثقافياً وعملياً الفرق بين القانون والنظام وقطع الأرزاق فنحن مع حياة كريمة آدمية لهؤلاء ومع رحلة أمنه هادئه للباقين مع دوله نفخر بتطورها، وشوارعها، وميادينها ، وكذلك صورتها أمام العالم الخارجى بدون المتسولين والبائعة الجائلين الذين أحتلوأ الشوارع والميادين والقطارات والإشارات فهل آن الآوان أن تتحمل الدولة مسئولياتها إتجاه هؤلاء وتكون هناك نقطة نظام ؟